الأزمة المالية ونظرية المؤامرة - د . كمال أمين الوصّال
صفحة 1 من اصل 1
الأزمة المالية ونظرية المؤامرة - د . كمال أمين الوصّال
الأزمة المالية ونظرية المؤامرة.
تاريخ اختلاق وصنع الأزمات، سواء كانت سياسية أو عسكرية أو اقتصادية قديم قدم ظهور الجماعات البشرية، وفي التاريخ الحديث لم تتورع القوى السياسية المؤثرة عن صنع الأزمات للتحكم في مقدرات الاقتصاد الدولي والسيطرة على الساحة السياسية الدولية، بل إن الحرب العالمية الثانية، وهي تعد من أسوأ الحروب التي شهدها الجنس البشري في
العصر الحديث وأكثرها تدميراً والتي فاق عدد ضحاياها 50 مليون شخص، قد اندلعت نتيجة لأزمة اختلقها الزعيم الألماني أدولف هتلر ببراعة ودهاء، وذلك لتصوير الغزو الألماني لبولندا على أنه مجرد دفاع عن النفس وهو حق مشروع لا جدال في ذلك.
فهل تمت صناعة الأزمة المالية الحالية لاستنزاف ثروات بعض المستثمرين من دول العالم النامي، أفراداً كانوا أم صناديق سيادية، وهو باختصار ما تقول به نظرية المؤامرة و أدعياؤها، حيث توجد قوى خفية قد تكون أفراداً أو منظمات أو دول مسؤولة عن تقريباً كل ما يحيق بدول العالم الثالث، خصوصاً الدول العربية من مصائب سياسية واقتصادية بهدف استمرار سيطرتها على مقدرات العالم وتحقيق مصالحها الاقتصادية والسياسية؟
الاجابة عه هذا السؤال يجب أن تمر عبر مناقشة عدد من القضايا وذلك حتى لا تضيع الحقيقة ونستمر في البكاء على اللبن المسكوب.
الحقيقة الأولى، أن الدول الغربية وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، تعمل وفق لاستراتيجيات وسياسات مدروسة سواء على الصعيد السياسي
أو الاقتصادي وهذه الاستراتيجيات والسياسات ما هي الا انعكاس لقوتها السياسية والاقتصادية والعسكرية من جهة، ومصالحها من جهة أخرى، هذا ما تقول به أبسط مبادئ علم العلاقات السياسية الدولية . وفي سعي هذه الدول لتحقيق مصالحها تستخدم الوسائل المشروعة في بعض الأحيان والوسائل غير المشروعة في أكثر الأحيان، ومن ذلك اختلاق الأزمات، غير أن مبادئ التفكير المنطقي السليم لا يمكن أن تسّلم بأن الوسيلة الوحيدة لهذه الدول لتحقيق مصالحها هي صنع الأزمات، الا أن هذا لا يحول دون قيام هذه الدول باستغلال الأزمات وهناك فرق بين استغلال الأزمات وصنع الأزمات . وهذا بالطبع لا يرجع للقيم “الأخلاقية” السامية التي تتمتع بها هذه الدول بقدر ما يرجع لدواع عملية.
الحقيقة الثانية، أن هناك استغلالاً اقتصادياً بيّناً من قبل الدول الصناعية/ المتقدمة للدول النامية والدول العربية بينها، وشواهد ذلك وآثاره واضحة في التاريخ الحديث والقديم، اذ تم وضع الملامح الأساسية للنظام الاقتصادي المالي العالمي الحالي في أربعينات القرن الماضي في ولاية نيوهامبشير الأمريكية في المؤتمر الشهير المعروف بـ "بريتون وودز"، وتم
انشاء كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لادارة الاقتصاد العالمي كهدف معلن، ونسي المجتمعون أن يضيفوا للعبارة السابقة لادارة الاقتصاد العالمي بما يحقق مصالح المجتمعين واستمرار سيطرتهم على الاقتصاد العالمي اذ اجتمعوا لاقتسام الغنائم الاقتصادية بعدما اقتسموا الغنائم السياسية مع نهاية الحرب العالمية الثانية . ومن تلك الشواهد أيضاً، أن الحديث عن تحرير التجارة العالمية والدورات والاجتماعات المتكررة لتحقيق ذلك وتحرير التجارة وفقاً لهذه الدول يعني تحرير في اتجاه واحد فقط يسمح بفتح الحدود و ازالة القيود أمام السلع والخدمات الأمريكية والأوربية ولكنه يضع القيود الكمية والنوعية أمام تدفق السلع من الدول النامية الى هذه الدول، ويعني كذلك فتح أسواق العمل في الدول النامية للمواطنين الأوربيين والأمريكان واستقبالهم حتى من دون الحصول على تأشيرات دخول ولكن العراقيل والمشاكل تُخلّق أمام دخول مواطني الدول النامية لأوروبا وأمريكا، وان كان الدخول بغرض العلاج أو الدراسة.
وليست قضية سعر النفط ببعيدة عن الأذهان، اذ كان سعر البرميل عند بداية القرن الماضي 1.2 دولار ومرت سبعون عاماً ليصل سعره الى 1.8 دولار ولم يحرك أحد ساكناً، ولكن عندما ارتفع سعر النفط الى ثلاثة دولارات في عام 1973 ثم الى 10.5 دولار عام 1974 ملأت وسائل الاعلام الغربية ومحللوها الاقتصاديون العالم ضجيجاً وصخباً حول ما أطلقوا عليه "أزمة الطاقة"، وكأن حصول الدول المصدرّة للبترول على جزء من حقوقها مقابل تسييل أهم ثرواتها واستغلالها لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية لشعوبها يمثل "أزمة" . وصنع الأزمات والاستغلال هما سمتان أساسيتان من سلوك الدول الغربية تجاه الدول النامية ولكن هل يعني هذا أن الأزمة المالية الحالية هي أزمة مصطنعة؟ وعلى الرغم من توارد بعض الأنباء عن قيام بعض الجهات الفيدرالية الأمريكية بالتحقيق مع بعض المسؤولين في المؤسسات المالية الأمريكية عقب ظهور الأزمة على السطح، ورغم تصريح وزير المالية الايطالي بأنه على الأمريكيين أن يتساءلوا أيهما أضَر بالاقتصاد الأمريكي أكثر الآن جرينسبان رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي السابق أم أسامة بن لادن؟! فان الأزمة المالية لها جذورها الاقتصادية والمالية، فإن كان من الممكن تفسير ضعف وانعدام الرقابة من قبل السلطات الأمريكية على بنوك الاستثمار وسياسة الاقراض الرخيص التي اتبعها الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي من قبيل التواطؤ أو وفقاً لمنطق نظرية المؤامرة، فهل يمكن تفسير ظهور الفقاعة العقارية وانحسارها وهي منبت الأزمة
المالية وفقاً لنفس المنطق؟
حتى اذا سلمنا بأن هناك مجموعة من رجال البنوك والمؤسسات المالية بل وبعض رجال السلطة الأمريكية، سعياً وراء تحقيق الأرباح الضخمة قاموا بتدبير مؤامرة على المواطن الأمريكي وهو أمر لا ينبغي استبعاده ولا يمكن البت فيه حالياً فماذا عن العالم العربي؟ هل كانت بعض الدول العربية أو المؤسسات الغنية العربية جزءاً من هذه المؤامرة؟ وعلى الرغم من أن التفسير التآمري للتطورات السياسية الاقتصادية المالية التي شهدها ويشهدها العالم العربي له الكثير مما يبرره، فالتاريخ الحديث والقديم حافل ومملوء بالأدوار المشبوهة للدول وأجهزة المخابرات والشركات الكبرى وخاصة شركات الأسلحة والبترول في خلق الأزمات والتأثير في الأوضاع الداخلية في الدول العربية، فان الفكرة
الأساسية لنظرية المؤامرة يصعب التسليم بها إذ يصعب التسليم الكامل والمطلّق بأن الأحداث التي نعيشها هي تنفيذ لتصور مسبق لقوة أو قوى معينة تتمتع بالسيطرة المطلقة على تطور الأحداث من دون أي مقاومة تذكر للطرف أو الأطراف المستغّلة، فهناك "فاعل" مطلق القوى يدرك مصالحه جيداً ويسعى بكافة السبل لتحقيقها وهناك "مفعول به" قد لا يدرك مصالحه وان أدركها فانه لا يقوم بأي جهد لتحقيقها، وعلى الرغم من صعوبة التسليم بالمنطق السابق فانه حتى وان كان صحيحاً فان المشكلة هي مشكلة "المفعول به" وليس "الفاعل"، ومن هنا فإنه يجب القاء اللوم على من سمح للآخرين باستغلاله.
*نقلاً عن صحيفة "الخليج" الإماراتية
العصر الحديث وأكثرها تدميراً والتي فاق عدد ضحاياها 50 مليون شخص، قد اندلعت نتيجة لأزمة اختلقها الزعيم الألماني أدولف هتلر ببراعة ودهاء، وذلك لتصوير الغزو الألماني لبولندا على أنه مجرد دفاع عن النفس وهو حق مشروع لا جدال في ذلك.
فهل تمت صناعة الأزمة المالية الحالية لاستنزاف ثروات بعض المستثمرين من دول العالم النامي، أفراداً كانوا أم صناديق سيادية، وهو باختصار ما تقول به نظرية المؤامرة و أدعياؤها، حيث توجد قوى خفية قد تكون أفراداً أو منظمات أو دول مسؤولة عن تقريباً كل ما يحيق بدول العالم الثالث، خصوصاً الدول العربية من مصائب سياسية واقتصادية بهدف استمرار سيطرتها على مقدرات العالم وتحقيق مصالحها الاقتصادية والسياسية؟
الاجابة عه هذا السؤال يجب أن تمر عبر مناقشة عدد من القضايا وذلك حتى لا تضيع الحقيقة ونستمر في البكاء على اللبن المسكوب.
الحقيقة الأولى، أن الدول الغربية وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، تعمل وفق لاستراتيجيات وسياسات مدروسة سواء على الصعيد السياسي
أو الاقتصادي وهذه الاستراتيجيات والسياسات ما هي الا انعكاس لقوتها السياسية والاقتصادية والعسكرية من جهة، ومصالحها من جهة أخرى، هذا ما تقول به أبسط مبادئ علم العلاقات السياسية الدولية . وفي سعي هذه الدول لتحقيق مصالحها تستخدم الوسائل المشروعة في بعض الأحيان والوسائل غير المشروعة في أكثر الأحيان، ومن ذلك اختلاق الأزمات، غير أن مبادئ التفكير المنطقي السليم لا يمكن أن تسّلم بأن الوسيلة الوحيدة لهذه الدول لتحقيق مصالحها هي صنع الأزمات، الا أن هذا لا يحول دون قيام هذه الدول باستغلال الأزمات وهناك فرق بين استغلال الأزمات وصنع الأزمات . وهذا بالطبع لا يرجع للقيم “الأخلاقية” السامية التي تتمتع بها هذه الدول بقدر ما يرجع لدواع عملية.
الحقيقة الثانية، أن هناك استغلالاً اقتصادياً بيّناً من قبل الدول الصناعية/ المتقدمة للدول النامية والدول العربية بينها، وشواهد ذلك وآثاره واضحة في التاريخ الحديث والقديم، اذ تم وضع الملامح الأساسية للنظام الاقتصادي المالي العالمي الحالي في أربعينات القرن الماضي في ولاية نيوهامبشير الأمريكية في المؤتمر الشهير المعروف بـ "بريتون وودز"، وتم
انشاء كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لادارة الاقتصاد العالمي كهدف معلن، ونسي المجتمعون أن يضيفوا للعبارة السابقة لادارة الاقتصاد العالمي بما يحقق مصالح المجتمعين واستمرار سيطرتهم على الاقتصاد العالمي اذ اجتمعوا لاقتسام الغنائم الاقتصادية بعدما اقتسموا الغنائم السياسية مع نهاية الحرب العالمية الثانية . ومن تلك الشواهد أيضاً، أن الحديث عن تحرير التجارة العالمية والدورات والاجتماعات المتكررة لتحقيق ذلك وتحرير التجارة وفقاً لهذه الدول يعني تحرير في اتجاه واحد فقط يسمح بفتح الحدود و ازالة القيود أمام السلع والخدمات الأمريكية والأوربية ولكنه يضع القيود الكمية والنوعية أمام تدفق السلع من الدول النامية الى هذه الدول، ويعني كذلك فتح أسواق العمل في الدول النامية للمواطنين الأوربيين والأمريكان واستقبالهم حتى من دون الحصول على تأشيرات دخول ولكن العراقيل والمشاكل تُخلّق أمام دخول مواطني الدول النامية لأوروبا وأمريكا، وان كان الدخول بغرض العلاج أو الدراسة.
وليست قضية سعر النفط ببعيدة عن الأذهان، اذ كان سعر البرميل عند بداية القرن الماضي 1.2 دولار ومرت سبعون عاماً ليصل سعره الى 1.8 دولار ولم يحرك أحد ساكناً، ولكن عندما ارتفع سعر النفط الى ثلاثة دولارات في عام 1973 ثم الى 10.5 دولار عام 1974 ملأت وسائل الاعلام الغربية ومحللوها الاقتصاديون العالم ضجيجاً وصخباً حول ما أطلقوا عليه "أزمة الطاقة"، وكأن حصول الدول المصدرّة للبترول على جزء من حقوقها مقابل تسييل أهم ثرواتها واستغلالها لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية لشعوبها يمثل "أزمة" . وصنع الأزمات والاستغلال هما سمتان أساسيتان من سلوك الدول الغربية تجاه الدول النامية ولكن هل يعني هذا أن الأزمة المالية الحالية هي أزمة مصطنعة؟ وعلى الرغم من توارد بعض الأنباء عن قيام بعض الجهات الفيدرالية الأمريكية بالتحقيق مع بعض المسؤولين في المؤسسات المالية الأمريكية عقب ظهور الأزمة على السطح، ورغم تصريح وزير المالية الايطالي بأنه على الأمريكيين أن يتساءلوا أيهما أضَر بالاقتصاد الأمريكي أكثر الآن جرينسبان رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي السابق أم أسامة بن لادن؟! فان الأزمة المالية لها جذورها الاقتصادية والمالية، فإن كان من الممكن تفسير ضعف وانعدام الرقابة من قبل السلطات الأمريكية على بنوك الاستثمار وسياسة الاقراض الرخيص التي اتبعها الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي من قبيل التواطؤ أو وفقاً لمنطق نظرية المؤامرة، فهل يمكن تفسير ظهور الفقاعة العقارية وانحسارها وهي منبت الأزمة
المالية وفقاً لنفس المنطق؟
حتى اذا سلمنا بأن هناك مجموعة من رجال البنوك والمؤسسات المالية بل وبعض رجال السلطة الأمريكية، سعياً وراء تحقيق الأرباح الضخمة قاموا بتدبير مؤامرة على المواطن الأمريكي وهو أمر لا ينبغي استبعاده ولا يمكن البت فيه حالياً فماذا عن العالم العربي؟ هل كانت بعض الدول العربية أو المؤسسات الغنية العربية جزءاً من هذه المؤامرة؟ وعلى الرغم من أن التفسير التآمري للتطورات السياسية الاقتصادية المالية التي شهدها ويشهدها العالم العربي له الكثير مما يبرره، فالتاريخ الحديث والقديم حافل ومملوء بالأدوار المشبوهة للدول وأجهزة المخابرات والشركات الكبرى وخاصة شركات الأسلحة والبترول في خلق الأزمات والتأثير في الأوضاع الداخلية في الدول العربية، فان الفكرة
الأساسية لنظرية المؤامرة يصعب التسليم بها إذ يصعب التسليم الكامل والمطلّق بأن الأحداث التي نعيشها هي تنفيذ لتصور مسبق لقوة أو قوى معينة تتمتع بالسيطرة المطلقة على تطور الأحداث من دون أي مقاومة تذكر للطرف أو الأطراف المستغّلة، فهناك "فاعل" مطلق القوى يدرك مصالحه جيداً ويسعى بكافة السبل لتحقيقها وهناك "مفعول به" قد لا يدرك مصالحه وان أدركها فانه لا يقوم بأي جهد لتحقيقها، وعلى الرغم من صعوبة التسليم بالمنطق السابق فانه حتى وان كان صحيحاً فان المشكلة هي مشكلة "المفعول به" وليس "الفاعل"، ومن هنا فإنه يجب القاء اللوم على من سمح للآخرين باستغلاله.
*نقلاً عن صحيفة "الخليج" الإماراتية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى